مقـالات

بحـوث ودراسات

عـلماء كـتب ومخطوطات 

عقـيدة و فـقـه

تاريخ وحـضارة

الصفحة الرئيسة
 

 

 

الولاية والبراءة والوقوف

 

أجمع المسلمون على اختلاف مذاهبهم على الحب في الله للمتقين الأبرار والبراءة والكره والبغض لأعداء الله من العصاة والكافرين والمنافقين هكذا على وجه العموم، لكن الإباضية توسعوا في تطبيق هذه المبادئ أكثر من غيرهم حيث أنهم  يقسمون الولاية والبراءة إلى قسمين أساسيين هما:

  • ولاية الجملة وبراءة الجملة

  • لولاية والبراءة الشخصيتان.

 ثم يطبقون هذه المبادئ عمليا.

تعريفات

ولاية الجملة: هي الحب في الله لكل من آمن بالله واتبع هداه منذ خلق الله آدم إلى قيام الساعة فهؤلاء هم أولياء الله ويجب على المسلم أن يحبهم ويدعو لهم بالرحمة والمغفرة. 

براءة الجملة: هي البغض في الله لكل من أشرك به أو أنكر وجوده أو كفر أو أعرض عن رسالاته بارتكابه للمعاصي وإصراره عليها دون أن يتوب، فهؤلاء جميعا يجب على المسلم أن يبغضهم  ويبرأ إلى الله منهم.

الولاية  الشخصية: هي الحب والولاء والرضا والاهتمام بالمصالح والدعاء بالرحمة والمغفرة لكل من ثبت عندك وفاؤهم بدين الله شخصا شخصا، سواء ثبت ذلك بالقرآن أو بالسنة أو بخبر العدول من المسلمين أو بالمعرفة الشخصية، ويشمل هذا الأنبياء المذكورة أسماؤهم في القرآن الكريم ومن عرفت من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم من الصالحين، وكل من تعرف من أصدقائك وأقاربك، فتقول: اللهم إني أُشهدك أني أحب فلان.

البراءة الشخصية: تعني البغض لكل من ثبت كفره ونفاقه ممن ورد ذكره في القرآن أو بخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) أو ممن سمعت عنه أو عرفته من الظالمين والمجرمين والكفار و العصاة، فتقول في حق هؤلاء : اللهم إن  أبرأ إليك من فعل فلان. وقد ورد عن عمر رضي الله عنه قوله: (من رأينا فيه شرا تبرأنا منه).

الوقوف: وبين الولاية والبراءة توجد حالة تسمى "الوقوف"  فإذا لم يثبت عندك تقوى شخص ما  فيجب أن تقف فيه فلا تحبه ولا تبغضه، أي لا تتولاه ولا تتبرأ منه وهذا ما يسمي بالوقوف، وهو حكم مبني على الجهل بالشخص. قال الله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم)[1]، ومن الوقوف يمكن أن تنتقل إما إلى الولاية وإما إلى البراءة. فإذا تعرفت على شخص مصادفة لا تدرى هل هو مؤمن وَفِيّ أو عاص فيجب أن تَقْفُ فيه حتى إذا عاشرته وعرفته وتأكدت من التزامه وصلاحه حينئذ تتولاه وتحبه وبذلك تكون قد انتقلت من الوقوف إلى الولاية. وحكم الولاية هو ما ثبت عندك بعلم فلا يجوز أن تنتقل منه إلا إذا ثبت لك ضده. فإذا ثبت عندك بيقين أن هذا الرجل الذي كنت تحبه وتتولاه قد انتهك حرمات الله وارتكب من المعاصي ما يوجب البراءة فإنك تنتقل من الولاية إلى البراءة فتتبرأ منه وتعلن بغضك وكراهيتك له من أجل  المعصية التي ارتكبها. ولو تاب وصلح وثبت عندك صلاحه فإنك تنتقل من حكم البراءة إلى حكم الولاية وهكذا.

الولاية والبراءة في القرآن الكريم

 يقول الشيخ بيوض رحمه الله (والولاية والبراءة الشخصيتان مرتكزتان على أسباب دينية, فهما ليستا نظاما من النظم الاجتماعية، إنما أصلهما ما ورد في القرآن الكريم من الأمر بولاية المؤمنين بعضهم لبعض وبالبراءة من الكفار والمنافقين، والآيات الواردة في هذا كثيرة جدا منها قوله تبارك وتعالى: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤ منكم  ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء)[2]، ويقول تبارك وتعالى (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)[3]، وفي شأن البراءة يقول الله عز وجل: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون)[4].

أهمية الولاية والبراءة في المجتمعات الإسلامية

وتعتبر الولاية والبراءة الشخصيتين من أهم قضايا العقيدة في الفكر الإسلامي لأنها تفرق بين معاملة المؤمنين الملتزمين بدينهم وبين العصاة والكفار والمنافقين, وهذا ما تفرد به الإباضية اعتمادا على النصوص المتقدمة وعلى قول الله تعالى في سورة التوبة (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم)[5]، وعلى قصة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك حين هجرهم النبي (ص) وصحابته حتى تاب الله عليهم.

يقول عدون جهلان -رحمه الله- (ولعل الولاية والبراءة من الأصول التي درسها الإباضية بعمق وانفردت عما سواها من الفرق بالقول بولاية الشخص وبراءة الشخص بحكم الظاهر ولذلك نجد دراسات مستفيضة لفقهاء الإباضية وعلمائها حول هذه المسألة، ففصّلوا القول في شروط الولاية والبراءة ووجوبها وبينوا بشكل دقيق الجهات التي تتم بها كل من الولاية والبراءة الشخصية كما حددوا بدقة من تجب فيه الولاية والبراءة سواء في الجملة أو في الشخص، وتجدر الإشارة إلى أن اهتمام الإباضية بهذا الجانب لم ينحصر في نطاق الاجتهاد الفقهي والنظر العقلي فحسب وإنما تعداه إلى الميدان العملي والتطبيق الفعلي فتجسدت هذه الآراء والأحكام في واقع الحياة اليومية داخل المجتمعات الإباضية)[6].

فمن حيث معاملة مثل هؤلاء العصاة فيقول الشيخ بيوض: (إذا بلغنا عن شخص ما  معصية ولكنها خاصة بنفسه ليس فيها ضرر كبير للمجتمع ولا هتك للحرمات جهارا بحيث لم ينزع جلباب الحياء عن نفسه فإن مثل هذا يترك لا يعلن عنه البراءة ما لم يجاهر بمعصيته، ففي الناس عصاة كثيرون نعاملهم معاملة دنيوية بالبيع والشراء والأخذ والعطاء ونعتقد بالقلب أنهم عصاة ونترك أمرهم إلى الله. أما إذا كان العاصي قد جاهر بمعصيته بحيث تحدث ضررا في الناس فهذا يجب إعلان البراءة منه في المساجد، وهنا يدخل الاعتبار الاجتماعي للمحافظة على المجتمع فلو علمنا -مثلا- أن إنسانا يشرب الخمر في بيته أو في حانة ولم تظهر منه عربدة في الطرقات سكتنا عنه ولا تعلن براءته على رؤوس الملأ غير أننا نبغضه في قلوبنا لأنه عاص لله، ولكنه إذا مر في شارع وهو معربد يسب الله وينطق بالهجر أو يكشف عن عورته فهنا يجب إعلان البراءة منه في المساجد وفي مجتمعات المسلمين حتى يقاطع تمام المقاطعة حفاظا على سلامة المجتمع، وقل مثل هذا في السرقة والزنى وسائر الفواحش)[7].

التطبيق العملي لمبدأ الولاية والبراءة

يقول الشيخ علي يحي معمر: (إن المجتمع الإسلامي أنظف من أن تقع فيه المعصية من مسلم ثم يسكتون عنه فيدعونه فيهم محبوبا قبل أن يبادر إلى التوبة والاستغفار  والتكفير، إن كانت المعصية مما يتحلل منه بالتكفير، فليس من الحق أبدا أن نتغاضى عن أولئك الذين يرتكبون المعاصي ونضعهم في صف واحد مع المؤمنين الموفين، بل يجب أن نزجر العاصي عن معصيته, وأن لا نساوي بينه وبين الموفي، وأن لا نعطيه من المحبة وطلب المغفرة وحسن التعامل ما نعطيه للذي يراقب الله في الخفاء والعلانية ويرجع إليه في كل كبيرة  وصغيرة، ويقف عند حدوده لا يتخطاها)[8].

وقد مارس الإباضية تطبيق هذه المبادئ عمليا فسجلت كتب التاريخ عند الإباضية  البراءة من العصاة  - علنا في المساجد - بعد نصحهم وإرشادهم فلا يتعامل معهم بقية المسلمين حتى يتوبوا. فعندما يثبت على شخص ما ارتكاب معصية تعلن منه البراءة حتى يتوب، ويتبع ذلك كإجراء تأديبي، هجرانه، أي مقاطعته اجتماعيا فلا يتعامل معه أحد، فلا يكلم ولا يحضر جماعة، ولا يؤاكل، ولا يجالس . فيجد نفسه معزولا عن المجتمع فيضطر إلى التوبة لتعود إليه مكانته، وعندها يستطيع أن يعيش بين المسلمين كواحد منهم.

 وأخف من حكم البراءة ما سمي بالخطة والهجران الذي عمل به العزابة في المغرب وهما يطبقان على كل من يخالف العرف العام للبلد أو الاتفاقات المعمول بها تحت رعاية العزابة، أو مخالفة السلوك المتبع في قضية من القضايا وبهذه الاعتبارات فإن الهجران قد نال كثيرا حتى من كبار العلماء.

وقد جرى في بعض العهود توسع في تطبيق الهجران فلم يقتصر فيه على من ارتكب المعاصي المعروفة، وإنما يطبق على من يخالف السيرة المتعارف عليها، وعلى من يرتكب ما يعتقد أنه يحط من قيمة الشخص أو يسبب مضرة للأفراد أو انحلالا وتفككا في المجتمع. وقد طبقت الخطة والهجران حتى على بعض العلماء، وقد ذكر الشيخ على يحي معمر[9] أمثلة عديدة من المواقف، ومن أمثلة ذلك العلامة ابن خلفون[10]، فقد خالف علماء عصره في بعض المسائل ونظرا لتشدد بعض العلماء وتمسكه برأيه طبقت عليه الخطة وبقي في الهجران عدة سنوات، قيل أنها بلغت اثنتي عشرة سنة، ومنها موقف العلماء من سليمان بن عبد الله بن بكر فقد أفتى هذا الشيخ بمسألة مخالفة للمعمول به بتاجديت[11]، فأخرجه الأشياخ إلى الخطة وجاء سليمان ليتوب بين أيديهم فلم يقبلوا منه إلا بعد سنوات ذلك لأنهم قالوا أن الفتوى قد انتشرت ولا تتم التوبة حتى يبلغ خبر رجوع الشيخ عن فتواه إلى كل من  بلغته الفتوى الخاطئة.

كان من نتيجة تطبيق نظام الولاية والبراءة أن الإباضية استطاعوا حفظ مجتمعاتهم من البدع والخرافات التي تجدها عند غيرهم فلم تدخل الصوفية أو الزندقة أو البدع المتعلقة بالشرك إلى المجتمعات الإباضية التي تم فيها تطبيق مبدأ الولاية والبراءة الشخصيتين وبذلك كانت المجتمعات الإباضية من أكثر الفرق تمسكا بآداب الدين والتزاما بتعاليم الإسلام، وتورعا عن الشبهات. بهذا يشهد تاريخ الإباضية وبهذا يشهد كل من عاشرهم أو عاش بينهم. ورغم أن هذا النظام قد اندثر بعد دخول الاستعمار إلى بلاد المسلمين ومحاولته القضاء على كل ما يمت إلى الإسلام بصلة، إلا أن آثار تطبيق هذا النظام لا زالت قائمة. فالإباضية على وجه العموم لا زالوا من أكثر المسلمين تمسكا بآداب الإسلام وتعاليمه وأكثرهم ابتعادا عن المعاصي والشبهات، بذلك تشهد  كتب السير عند الإباضية كما يشهد بذلك كل من عاش بينهم وعرفهم عن قرب.   

ولو أن المجتمعات الإسلامية سواء كانت دولا أو قبائل أو جماعات أو عائلات  أخذت بهذا النظام بعد تعديله بما يتناسب مع واقع العصر لاستطاعت أن تحل كثيرا من المشاكل التي نراها في كثير من الدول الإسلامية، ومنها مشاكل الشباب على اختلاف أنواعها من التدخين والمخدرات وعدم الاهتمام بالصلاة والتشبه بالأجانب إلى غير ذلك مما هو معروف للجميع.

 

 

المراجع

        1)         سمر أسرة مسلمة - علي يحي معمر

       2)         الفكر السياسي عند الإباضية - عدون جهلان

       3)         فتاوى الشيخ بيوض - جمع وترتيب بكير بالحاج

       4)         قواعد الإسلام  - إسماعيل الجيطالي


 

[1] القرآن الكريم، سورة الإسراء ، آية 36

[2] القرآن الكريم، سورة الممتحنة، آية 4 

[3] القرآن الكريم، سورة التوبة، آية 71

[4] القرآن الكريم، سورة المجادلة، آية 22

[5] القرآن الكريم، سورة التوبة، آية 114

[6]  عدون جهلان , الفكر السياسي  عند الإباضية  ص. 58

[7] بكير بالحاج -فتاوى الشيخ بيوض   

[8] علي يحي معمر - الإباضية في موكب التاريخ - الحلقة الأولى

[9] علي يحي معمر : الإباضية في الجزائر

[10] ابن خلفون: أبو يعقوب بن خلفون - من علماء القرن السادس الهجري  كان غزير العلم واسع الأفق ، حاضر البديهة، ساطع الحجة. اختلف مع علماء عصره في بعض المسائل. وصل لنا من كتبه أجوبة ابن خلفون  - حققه  الدكتور عمروالنامي

[11] تاجديت :  قرية من قرى الجزائر كانت حافلة بالعلماء

 
 
 
 

الصفحة الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة لموقع الاستقامة ولأصحاب المقالات - الأمانة العلمية تقتضي ذكر المصدر عند نقل أي  معلومات من هذا الموقع