الطّـفْـل
إن الإنسان
في هذا العصر ، يوجه اهتماماً متزائداً إلى الطفل ، فقد أصبحت دراسته
، والتفكير فيه ، والحديث عنه ، والإهتمام به في جميع الظروف
والأحوال ، مظاهر تشغل حيزاً غير ضيق في الوقت ، وجانباً غير قليل من
العناية ، وتستهلك قدراً ضخماً من الجهد ، وقسطاً وافراً من ميزانية
الدولة ، بل لقد أصبح يخيل للإنسان الكبير ، أنه هو خالق الإنسان
الصغير (الطفل ) فمن حقه أن يشكله بالشكل الذي يريده ، ومن واجبه أن
يتولى شؤون سعادته وشقائه ، وشؤون غذائه ونمائه ، وشؤون إيجاده
وإعدامه ، بل حتى تحديد العدد اللازم منه في الأرض .
ولعل وزارة أو أكثر في كل دولة من دول العالم إنما تخصص للطفل ،
فوزارة التربية مثلاً هي وزارة للأطفال ، وأهم أعمال وزارات الصحة
الإجتماعية إنما تقدم للأطفال أو من أجل الأطفال ، ووزارات الشباب
إنما هي وزارات يعود أغلب ما تقدم به إلى الطفل .
وكل وزارات الدولة بل الدولة نفسها بما فيها من أجهزة وإمكانيات
تجدها متهمة بالطفل في جميع الأحوال .
الإهتمام بأمراض الورائة ، قضية الحمل ، معاملة الحامل ، الغذاء
والدواء لها وله وهو في بطنها لم يخرج بعد ، الإستعداد لاستقبال
مقدمه ، تنظيم مروره إلى الحياة بتحديد الحمل أو منعه، إذا اقتضى
الأمر ، تحديد العديد بالنسبة لأفراد الأسرة ، فتح الباب أمام عدد
محدد ومنع مجيء أطفال جدد إذا خيف أن يقلقوا راحة الموجودين بالفعل ،
على اعتبار أن الأرض هي ملك للأحياء الموجودين عليها بالفعل ، وأن
الذين لم يدخلوها بعد إنما هم دخلاء من حقنا أن لا نستقبلهم ولا نقوم
بضيافتهم ، وما دامت الأرض لا تستوعب إلا عدداً معيناً في نظرنا فإنه
من حقنا أن لا نسمح بالزيادة على ذلك العدد ، وما دام دخل البيت في
نظرنا لا يكفي إلا لأربعة أفراد فإنه من حقنا أن لا نسمح بالزيادة عن
ذلك العدد في ذلك البيت وهكذا .
ثم الإهتمام بدور الطفولة والحضانة والمدارس والملاعب ومعسكرات
الشباب ، كل تلك الأشياء داخلة في هذا الإهتمام بالطفل .
والذي يلاحظ من بعيد ما يقال في هذا المجال وما ينبغي أن يعمل للطفل
يجد أن الاسرة إنما هي عبارة عن ثلاثة أفراد ، أو لها طفل يحاط
بجميع مظاهر القداسة والعبادة ، وأم ساهرة على خدمة هذا الطفل ، أو
الإله الصغير تقوم عليه بالخدمة الممتازة ، وتغدق عليه محبتها وتضفي
عليه من أحاسيسها ومشاعرها وعاطفتها وتقدم إليه ما يحتاجه في هذه
السن المبكرة ، أما الأب في الحقيقة فهو خادم أو عبد يؤمر فيطيع
وعليه أن يحضر للطفل ما يحب له حسب ذوق أمه ورأي الجماعة ، وأن يكفل
له ولها الغذاء المناسب واللباس والرعاية المناسبة ، إن الأب في هذه
الحال ليس له حق وإنما عليه الواجب فقط ، عليه أن يتكفل بجميع ما
يحتاج إليه الإثنان وأن يحضره ويعده لهما ، عليه أن يعمل ليوفر للإله
الصغير القابع في مهده ولسادنة المعبد جميع ما تقتضيه طبيعة حياتهما
وطبيعة حياته .
وقد يبدو من جهة أخرى أن تفكير الانسان الكبير في تسيير الإنسان
الصغير ( الطفل ) قد يختلف بعض الاختلاف في العصور القديمة والعصر
الحديث ، بل ربما أن التخطيط فيهما يتجه اتجاهين متباعدين .
فبينما كان الإنسان الكبير في القديم إنما ينظر إلى الطفل نظرة فردية
باعتبار الطفل امتداداً الحياة أحد الأبوين ، يتمنى ذلك الأب أن يرث
منه طفله جميع مواهبه وخصائصه وطباعة ، وفي كثير من الأحيان حتى
وسائل معاشه ، وأساليب احترافه ، وإن كان يتمنى أن يكون ذلك منه
بطريقة أفضل وأحسن وأعود بالكسب ، كانت الدولة إنما تقف ناظرة من
بعيد في شبه سلبية تنتظر حتى يتجه إليها ذلك الفرد لينضم إلى قواها .
بينما كان هذا الاسلوب هو الظاهر في القديم ، فإن أسلوب العصر الحاضر
تغير تغيراً ملحوظاً ، فأصبحت الدولة تهتم بالطفل أكثر حتى من اهتمام
الاسرة أو أفراد الأبوين ، ولذلك فهي تقدم له الرعاية في سنواته
الأولى ، ثم لا تلبث أن تستلبه من أٍسرته وتستأثر دونهما في تشكيله في
الشكل الذي ترغبه وتريده ، ذلك أن الإنسان في هذا العصر قد تخلى عن
التفكير الفردي وأصبح يعمل بروح المجموعة ، فهو يريد أن تسيّر
المجموعات الصغيرة ، وأن المجموعات الصغيرة يجب عليها أن ترث كل
الخصائص والمواهب والأفكار والسلوك من المجموعة الكبيرة ، وأن تسير
حسب مخططاتها .
فصول
الكتاب