مقـالات

بحـوث ودراسات

عـلماء كـتب ومخطوطات 

عقـيدة و فـقـه

تاريخ وحـضارة

الصفحة الرئيسة

فصول كتاب آلهة من الحلوى -6

 

للشـيخ علي يحي معـمـر

الطفل في المدرسة

إن الطفل في المدرسة يشبه نبتة صغيرة على أرض عارية تتعاقب عليها رياح مختلفة الإتجاه وتمرّ زوابع عنيفة من كل مكان .

الأب يريد منه أن ينمو بسرعة وأن يجيد مهارة ما لتكون وسيلة اكتساب تقدم للبيت مدداً مادياً يساعد على النفقات ، وهو غالباً يرغب أن يسلك طفله أقرب الطريق لأضخم المكاسب .

والدّين يريد منه أن يعرف حقائق الإيمان والعمل الصالح ليقوم بقسطه من خلافته الله على الأرض على هدى وبصيرة ، وليعيش في الدنيا عبداً حراً الله ، لا يخضع لغيره ، ولا يذل لسواه .

أما الدولة فهي تريد منه أن يسير في المنهج الذي تراه حق يساعد على مزيد من الإكتشاف والإختراع في المجال الذي تمهده له وأن يسوق معها – بقوة وذكاء – قافلة البشرية إلى مصير مرسوم ، والواقع أن الدولة وإن قدّمت إلى الطفل في السابق كثيراً من المساعدات ، غير أنه كان لا يحس بها الإحساس الكافي ، فهي في نظره ليست ذات قيمة ، أما الآن وقد مرَّ برياض الأطفال ودخل المدرسة ، فإن المساعدات تصله مباشرة وهو يعيها ويحس بها إحساساً كاملاً ، ولذلك فإن تأثيرها عليه يكون من العنف والقوة بالقدار الذي يزيح جميع المؤثرات السابقة ، ويوجهه التوجيه الإجباري المطلوب ، وعندما تكون الدولة مخالفة في مسلكها المنهج الدين أو لرغبات المجتمع – وهذا ما يحدث غالباً – فإن الطريق يتفرع أمام الطفل، ويسلك غالباً مع المنهج الذي امتص مبادئه من أفراد أسرته وهو صغير ، أما عندما تكون الدولة سائرة في منهج الدين فإن الطفل غالباً ما ينتهج السلوك المقصود منه .

ولا شكّ أن الدولة بالنسبة للطفل في هذه المرحلة متسترة بمصالح الشعب والوطن ، تستغل كل ما حذفه خبراء التوجيه التربوي للإستفادة من هذا الطفل في الركب السائر لتنفيذ مخططاتها .

وينقسم خبراء التوجيه التربوي إلى نوعين :

النـوع الأول : وهو في الغالب ما تسير عليه مخططات الشعوب النامية التي تنقصها الخبرات والمواد ، وسلكها يشبه أن يكون مسلك الطبيب مع المرضى في الحالات الخطيرة ، الإشراف المتواصل ، أخذ مقاييس الحرارة عدة مرات في اليوم ، وضع ريجيم للتغذية ، التقليل من بعض المواد والإكثار من مواد أخرى ، المنع الكامل من بعضها ، مراعاة حركة المرضى ، والسماح لبعضهم بالتحرك الكامل لبعضهم بالتحرك المحدود في نطاق محدود، وعدم السماع لبعضهم بالحركة مطلقاً .

إن أطفال المدارس في الدولة النامية في الواقع ليسوا بُعداء عن هذا الوضع ، تحدد لهم مواضيع الدراسة حسب أمزجة الدولة وسياستها ، تكثر من بعضها وتقلل من بعضها الأخرى ، وتمنع بعضها منعاً مطلقاً ، وتشرف على تحركاتهم إشرافاً كاملاً ، تسمح لبعضهم بالحركة المطلقة ولبعضهم بالحركة المحدودة في الأماكن المحدودة ، بينما تمنع بعضهم من التحرك منعاً مطلقا .

ويسير الطفل في مراحله الدراسية على هذا التخطيط حتى يتمها وقد صب في القالب المطلوب ، القالب الذي تريده الدولة ، فإذا لم يتسع له القالب أو حاول أن يخرج عنه مثَّلت معه دور العربي الحاهلي مع إله من الحلوى .

وفي أثناء هذه العملية المحدّدة الضعيفة التي يسير عليها الطفل بإشارات التوجيه الإجباري تنصب سيول دافقة من آراء التربية وعلماء النفس ونصائحهم في هذا الميدان ، يقرؤها الكبار والمسئولون طبعاً ثم يضعونها في أماكنها من مراكز التوثيق أو مكتبات الدولة أو مكتباتهم الخاصة ، وذلك لأن ما يجيء في تلك الكتب عامة يشبه ما تصفه كتب علم التغذية من المواد الموجود في النباتات المنتشرة في ميادين الحياة .

أما المدرسة فهي شبيهة جداً بالمستشفى ولا تقدم للطفل إلا بقدار ما يقدَّمه المستشفى للمريض ، بنصيحة وكيل الوزارة أو عميد التوجيه أو مدير المدرسة أو المدرس أو غيرهم ممن تناط به هذه العملية ، بل إن القوانين تحاول أن تلحق الطفل حتى خارج المدرسة فتمنعه من الزيادة على ما تقدمه له بدعوى الشفقة عليه وخوفاً على أعصابه من الإرهاق ، بل لعله من المضحك أن يجنح عدد من أولئك الخبراء فيقررون على سنة دراسية عدداً من الحصص في الأسبوع يؤكدون أن علم النفس التربوي الحديث لا يسمح بالزيادة عليها ولا بالتنقيص منها ، ويجتمعون هم أنفسهم أو أكثرهم بعد فترة قصيرة فيقررون غير ما قرروه أول مرة زاعمين أيضاً أن ذلك ما يؤكده علم النفس التربوي الحديث وأن الزيادة على ذلك والنقص منه مخالفة لحقائق العلم .

أما النـوع الثانـي : وهو الذي تسلكه الدول التي تملك الخبرة والثروة فهو يختلف عن هذا المسلك اختلافاً واضحاً ، إنه مسلك ينبني على دراسة مسبقة لميول الطفل ثم تقديم ما يشتهيه أولاً بأول ، هم لا يمنعون ما لا يريدون بصورة النهي المباشر ، وبدلاً من أن يضعوا أمامه إشارة منع الحركة في اتجاه أو ميدان يبتعدون به عن الاتجاه أو الميدان المرفوض ، ويضعونه في الميدان أو الاتجاه المطلوب ويبذلون له حرية الركض ، وقد تلتقي أهداف الإتجاهين وإن كانت الصور الأخيرة تتم دون تذمر أو شكوى لأن أصحابها يعتقدون أنهم وصلوا بمحض اختيارهم ورغباتهم ، بينما تتم الصور الأولى بكثير من القسر والإكراه والعنف .

إن الأطفال في الدول النامية كأنما يوقفون في طوابير ثم تصدر إليهم الأوامر – واحداً واحداً – كن أنت كذا ، وكن أنت كذا ، أما الأطفال في الدول المتقدمة فكأنما يوقفون هم أيضاً في طوابير ، وتوضع مصائرهم في أشباه لعب جميلة أمامهم ثم يتاح لهم اختبار ما يريدون منها ، وإن كانت هي الأخرى محددة حسب رغبة الدولة ، فيثب كل واحد منهم إلى اختيار اللعبة وتتيح له تلك اللعبة أن يستمر معها حتى يصبح محترفاً فيها تشكل لون حياته .

والفرق بين التوجيهين الأول والثاني أن التوجيه الأول يترك جميع الأشياء أمام حسّ الطفل ونظره ، مرفقة ببطاقات الأوامر والنواهي : إفعل لا تفعل ، خذ لا تأخذ، أما في التوجيه الثاني فتستبعد من المبدأ الأشياء غير المرغوب فيها وتوضع الأشياء المرغوب فيها أمام الطفل منسقة جميلة إلى جانبها بطاقة واحدة تقول له : إختر ما شئت منها .

وهكذا تجد في الدول النامية كلمة : إفعل ولا تفعل تتحرك معك كظلك ، بينما لا تجد في الدول المستقرة إلا عبارة : إختر ما شئت .
 


فصول الكتاب

0 مقدمة 11 الاستعمار بين الرجل والمرأة
1 قوالب البشر 12 التفوق بين الرجل والمرأة
2 الطفل 13 الخداع بين الرجل والمرأة
3 الطفل في الغيب 14 الحاكم
4 الطفل في الطريق 15 مخروط الحكم
5 الطفل في الاسرة 16 أين الرجل
6 الطفل في المدرسة 17 مظاهر العبادة في الأقانيم الثلاثة
7 طفل الدولة 18 الانسياق الجماعي
8 المرأة 19 فصول لم تكتب
9 المعركة المفتعلة 20 كلمة الختام
10 الحرية المهدورة    
 
 

 

 

الصفحة الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة لموقع الاستقامة ولأصحاب المقالات - الأمانة العلمية تتطلب ذكر المصدر كاملا  عند نقل أي  معلومات من هذا الموقع