مقـالات

بحـوث ودراسات

عـلماء كـتب ومخطوطات 

عقـيدة و فـقـه

تاريخ وحـضارة

الصفحة الرئيسة

فصول كتاب سمر أسرة مسلمة  

 

الليلة السابعة

اجتمعت الأسرة الصغيرة كما تجتمع كل ليلة ، وأحضرت الأم إبريق الشاي معها فقد أرادت أن لا تقوم أثناء الحديث ، كما أنها لا تريد أن تكون هدفاً لنكت زوجها اللاذعة .

وسرح كل من الأبوين مع حديث نفسي بعيد عن موضوع الاجتماع وانتظر نجيب أن يعود أحدهما من شروده الذي طال ونقل بصره بينهما عدة مرات حتى شعر بالسأم فقال : هل نواصل الحديث في موضوع للسمر الماضي يا أبي ؟ .

وعاد الأبوان من شرودهما على صوت نجيب وقال الأب : ماذا كنت تقول يا نجيب ؟

قال نجيب : أريد أن نبدأ سمرنا المتع فمـا هو الموضوع الذي سنتحدث عنه ؟

قال الأب : إذا بدأنا الحديث فإن الموضوع سوف يعرض نفسه علينا دون أن نبحث عنه .

قال نجيب : هل هذا معنى قولهم : ( الحديث ذو شجون ) .

قال الأب : يقصدون بذلك إن الحديث يتشعب ، في موضوع فلا تلبث أن تجد نفسك في موضوع ثان دون أن تشعر بالانتقال أو تنتبه إليه .

قال نجيب : حقا إن الإنسان عندما يتحدث ينتقل من موضوع إلى موضوع دون أن يدري .

قالت الأم : لأن الإنسان لا يملك القوة التي يسير بها الأشياء في الحياة وإنما هو فرد تجري عليه أحكام يسير بها نظام العالم كله .

قال نجيب : إن تعبيرك هذا فلسفي بعيد المرمى ولذلك فلم أستطع أن أحلق إليه فهل لك أن تشرحي لي وجهة نظرك يا أماه ؟ …

قالت الأم : لعل أباك هو الذي يتولى الحديث في الموضوع ريثما أجهز لكما هذا الإبريق من الشاي .

قال الأب : ألا ترى إن كل إنسان يأمل أن يكسب مالاً وفيراً أو علماً غزيراً ، أو جاهاً كبيراً ، أو محبة عند الناس أو كل ذلك أو غير ذلك مما يطلبه الناس ؟

قال نجيب : ذلك فيما يبدوا ما طبع عليه البشر .

قال الأب : وهل يبلغ كل واحد من الناس هذه الآمال التي جعلها نصب عينيه ، وسعى إليها بما يملك من جهد وقوة ؟

قال نجيب : إن الناس في ذلك لا يتساوون فمنهم من تتحقق له كل الآمال ومنهم من يتحقق له بعضها ومنهم يخفق فيها جميعاً .

قال الأب : لماذا يا ترى تتحقق كل آمال بعض الناس وتخفق كل آمال بعض الناس الآخرين بينما تتفاوت درجات البعض الآخر في مقدار ما يتحقق لهم من المطالب ؟

قال نجيب : إن هذا يرجع فيما أرى إلى استعداد كل واحد منهم ومقدار علمه بالطريق التي تؤدي إلى النجاح ومدى معرفته بالعمل ومداومته وإقباله عليه .

قال الأب : هل ترى أن هذه هي كل الأسباب التي تنتج عنها الفروق السابقة .

قال نجيب : هذا ما أظنه وقد تكون أسباب أخرى لم أتفطن إليها الآن .

قال الأب : إن بعض الناس يتخذ لنفسه غاية معينة يريد الوصول إليها ويتخذ لذلك جميع الوسائل الكفيلة بالتحقيق في نظره ولكنه في أخر اللحظات يجد عائقاً ليس في الحسبان فيرتد عن عزمه ويخفق في تحقيق غايته ، فكيف تعلل إخفاقه هذا ؟ إنه لم يقصر في الاستعداد ، ولم يقصر في المعرفة ، ولم يقصر في الجد والمداومة والإقبال ؟

قال نجيب : قد يكون العائق تقصيراً في إحدى هذه الأشياء وقد يكون العائق شيئا فوق إرادته .

قال الأب : ماذا تعني بقولك فوق إرادته ؟

قال نجيب : إذا كان الله لا يريد أن يتم ذلك العمل .

قال الأب : هل تعتقد أن إرادة العبد معلقة على إرادة الله ؟

قال نجيب : هذا أمر طبيعي فإن الإنسان لا يستطيع أن يعمل عملا لا يريده الله ، ولا أن يمتنع عن عمل قدره الله .

قال الأب : صدقت يا بني وليس هذا الحكم على الإنسان فقط وإنما هو على جميع المخلوقات ، فلو أن من في السماوات والأرض اجتمعوا على شيء لا يريده الله فإن ذلك شيء أراده الله لما كان لاجتماعهم أثر .

قالت الأم : وهذا معنى الإيمان بالقضاء والقدر .

قال الأب : هو ذلك ولن يتم إيمان الإنسان حتى يؤمن بالقضاء والقدر خيره وشره أنه من الله .

قال نجيب : هل هناك فرق بين معنى القضاء ومعنى القدر ، أم أنهما كلمتان تطلقان على معنى واحد ؟

قال الأب : لكل منهما معنى غير المعنى الذي تطلق عليه الثانية .

قال نجيب : فما معنى كلمة القضاء ؟

قال الأب : القضاء هو حكم الله على الخلق في الأزل ، وشرحه العلامة السالمي(1) بقوله " إن القضاء عبارة عن وجود المكونات في اللوح إجمالاً "(2) .

قال نجيب : وما معنى القدر ؟

قال الأب : هو تنفيذ قضاء الله على المخلوقات في ما يزال . وقد شرحه العلامة السالمي بقوله : " القدر عبارة عن وجودها في المواد تفصيلاً " (3).

قال نجيب : وما معنى الأزل يا أبي ؟

قال الأب : الأزل كون الله موجوداً ولا شيء غيره من المخلوقات .

قال نجيب : وما معنى ما يزال يا أبي ؟

قال الأب : هو الزمن الذي ظهرت منه المخلوقات بإرادة الله على مسارح الكون في أوقاتها المختلفة ، وظهور الأشياء في أوقاتها وأزمنتها حسب حكمة الله وإرادته هو ما يسمى بالقدر فحكم الله بالمخلوقات جميعاً من أجسام وأعراض وغيرها يسمى القضاء وتنفيذ إرادة الله بالخلق يسمى القدر .

قال نجيب : يعني إن الله  قضى قبل أن يخلق شيئا من الخلق إننا سيجتمع هذه الليلة على هذه الهيئة ونشرب كوب الشاي وتناقش هذه المواضيع .

قال الأب : نعم يا ولدي وهذا ما يطلق عليه القضاء وتنفيذ هذا الحكم في هذا الزمان المقدر والمكان المقدر على الهيئة المقدرة في علمه تعالى هو ما يسمى بالقدر .

قال نجيب : وكل ما يقع في الكون يجري هذا المجرى ؟

قال الأب : نعم يا ولدي فلا يقع شيء كبير ولا صغير إلا بقضـائه وقدره .

قال نجيب : نعم يا ولدي أن جميع ما يقع في الكون قضي به قبل عملية الخلق ثم قدر في أوقاته ومناسبـاته حسب علم الله وإرادته وأجري في أزمنته بظروفه .

قال نجيب : إذن فالأعمال العظيمة التي يقوم بها أبطال الإنسانية في الحروب والسلام وفي الاكتشاف والاختراع ، هذه الأشياء كلها كانت مقتضيا بها أن تظهر في أزمنتها التي ظهرت فيها وعلى أيدي الناس الذين اكتشفوها .

قال الأب : ذلك لا ريب فيه .

قال نجيب : إذن ليس لأطفال الحروب والسلام ، وللمخترعين والمكتشفين وللفلاسفة والعلماء وللعاملين من بناة الحضارات أي فضل ، لأن جميع تلك الأعمال كانت ستقع بدو جهودهم .

قال الأب : إن المؤمن يا ولدي لا ينكر فضل الناس وما قدموه من خير ،

قال نجيب : إذا كان العمل الذي قاموا به قد سبق في علم الله انه سيكون فما فضلهم في اكتشافه ؟

قال الأب : يكفي لفضلهم إن إرادة الباري عز وجل قد اختارتهم لتنفيذ القدر ، فظهور الاكتشافات والاختراعات ، والعلوم على أيديهم فضل كبير ، ألا ترى إن للرسل فضلا على جميع الخلق ، وهذا الفضل جاءهم من اختيار الله لهم كي ينفذوا إرادته تعالى في تبليغ رسالته إلى الخلق ولست أعني أن العلماء ومن ذكرته معهم يبلغون إلى مقام الرسل عليهم السلام فهذا معنى لا يخطر على بال مؤمن ولكنني أردت أن أضرب لك مثلا ليتضح لك المعنى الذي تسأل عنه .

قال نجيب : هذا صحيح يا أبي ولكن لا يزال في الموضوع غموض .

قال الأب : إن الله خلق الإنسان وأودع فيه قوى على العمل والفهم والتفكير والكسب والاختيار ثم بين له عن طريق رسله عليهم السلام سبل الرشاد وسبل الضلال وطالبه بالعمل الصالح .

قال نجيب : هذا برهان واضح يا أبي .

قال الأب : إذن لم يبق للإنسان إلا أن يعمل حسبما طلب منه وهو ميسر لما خلق له فإذا قدر له أن ينجح نجح ، وإذا قدر له أن يخفق أخفق .

قال نجيب : هل تضرب لي أمثلة على ذلك يا أبي ؟

قال الأب : قد قرأت وسمعت عن اكتشاف الذرة في هذا العصر .

قال نجيب : نعم يا أبي .

قال الأب : إن عدداً ضخماً من العلماء كانوا يعملون جاهدين لهذا الاكتشاف وكان كل واحد منهم يحاول بكل ما أوتي من علم وإمكانيات إن يسبق غيره إلى النتيجة تؤيده في ذلك دولة أو عدد من الدول .

قال الأب : ولكن واحداً منهم يفوز قبل الآخرين .

قال نجيب : هذا طبيعي .

قال الأب : مع أن كل واحد منهم قد يذل ما يملك من جهد وله استعداده العلمي والمالي وغيره مما يتطلبه هذا البحث الهام .

قال نجيب : لا شك أن كل واحد استعد للموضوع بكل ما يملك من إمكانيات .

قال الأب : ويحتمل أن يكون الذي سبق إلى الاكتشاف أقل استعداداً من الآخرين بوجه من الوجه من الوجوه وقد يخفق من كان يتوقع له النجاح وينجح من لم يعلق عليه الأمل في النجاح .

قال الأب : وقس على هذه الحالة جميع الأشياء التي تمت على أيدي المخلوقين .

قال نجيب : حسنا .

قال الأب : لماذا يفوز ذلك الشخص دون بقية الأشخاص الذين اهتموا بالمسألة وهم كلهم أمروا بالعمل فاستعدوا وجدوا في الكفاح ؟

قالت الأم : لان إرادة الله يسرته دون الآخرين للقيام بهذا العمل وقدر الله أن يكون هذا الاكتشاف على يده .

قال الأب : وهذا معنى قول  ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له )(1) إن الذي يسر لاكتشاف الذرة اكتشف الذرة والذي يسر لاكتشاف البنسلين اكتشف البنسلين والذي يسر لاكتشاف أمريكا اكتشف أمريكا والذي يسر لاختراع الطائرة ، اختر الطائرة وهكذا ينفذ قضاء الله وقدره على أيدي المخلوقات حسبما يسره لكل منها في جميع الجلائل والدقائق مما يحدث في الكون .

قال نجيب : وهكذا ننتهي إلى أن كل شخص سوف يصدر منه العمل الذي كان ميسرا له .

قالت الأم : هذا صحيح فإن الإنسان لا يستطيع أن يقوم إلا بالعمل الذي يسر له

قال نجيب : وعلى هذا الأساس يصبح الشخص الذي قدم أعظم الأعمال فيما يعتقده الناس لم يقدم إلا ما يسره الله له .

قال الأب : وهل يقع في الكون إلا ما يريده الله وييسره ؟

قال نجيب : فلماذا نسند الأعمال إلى الناس ونعترف لهم بالفضل ؟

قال الأب : نعترف لهم بالفضل على جهودهم المبذولة وكفاحهم المتواصل وتفضيلهم السلوك في طريق الرشاد بدلاً من طريق الغي . واختيار إرادة الله ليقدموا لنا هذا الجميل .

قال نجيب : إن الشكر الله لا لهم .

قال الأب : نعم إن الشكر الله فإن جميع النعم ما ظهر منها ومتا بطن وما عرفناه وما لم نعرفه فإنما هي منه ولكن شكر الله على آلائه(1) التي لا تحصى ، لا يمنعنا من شكر الناس على ما لهم من فضل وللناس فيما يقدمون من أعمال فضل وجميل يجب أن يشكروا عليه .

قال نجيب : وكيف ذلك يا أبي ؟

قال الأب : أرأيت لو أن أحد أصدقائك أهدى إليك كتابا وأرسله مع خادمه أو ابنه أو أحد أصدقائك ، ألا تشكر من أوصل إليك هدية الصديق حين تتسلمها منه ؟

قال نجيب : أشكره طبعاً .

قال الأب : لماذا تشكر الخادم ؟ والهدية إنما جاءتك من الصديق لا من الخادم ، فهو عبارة عن آلة كلفت بالتوصيل فأوصل إليك ولو لم يأتيك به هو لأتاك به غيره .

قال نجيب : إنما أشكره على تكلفه التعب ومشقة السير إلي .

قال الأب : إنه لم يتكلف التعب من أجلك ولم يكبد نفسه عناء السير لإرضائك وإنما كان ذلك قياماً بواجبه وإرضاء لمن أرسله لأنه مكلف بذلك .

قال نجيب : إذن فنحن نعترف بفضل المخترعين والمكتشفين والعلماء وكل من أسدى جميلاً إلى البشرية على أنهم قاموا بدور الخادم .

قال الأب : ما دمت قد اخترت هذا التعبير فهل ترى أشرف أو أكرم من أن تكون خادماً لله توصل نعمته إلى خلقه ؟

قال نجيب : ليس فوق هذه المرتبة مرتبة فإن أفضل الخلق من تشرف بنسبة عبوديته إلى الله واختاره لحمل رسالته ونعمه إلى خلقه ، ثم التفت إلى أمه وقال : هل لك يا أماه أن تختمي لنا هذا النقاش ببعض ما تحفظين ؟

قالت الأم : قال رسول الله  : لعبادة بن الصامت (1)t (( إنك لن تجد ولن تبلغ حقيقة الإيمان حتى تؤمن بالقدر خيره وشـره أنه من الله تعالى . قال : وكيف لي يا رسول الله أن أعلم خير القدر وشره ؟ قال : تعلم إن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، فإن مت على غيره ذلك دخلت النار )) (2).

وسئل رسول الله  عن الإيمان فقال : (( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ولقائه واليوم الآخر وأن تؤمن بالقدر خيره وشره أنه من الله تعالى ))(1).

وروى الحافظ الحجة الربيع بن حبيب (2)عن أبي عبيدة مسلم (3)عن جابر بن زيد (4)قال : بلغني عن رسول الله  قال : (( كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس ))(5) .

قال نجيب : صدق رسول الله  ، ثم قام فألقى تحية المساء على أبويه وانصرف .

 .

 

 

 

الصفحة الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة لموقع الاستقامة ولأصحاب المقالات - الأمانة العلمية تتطلب ذكر المصدر كاملا  عند نقل أي  معلومات من هذا الموقع